إنها واحدة من أشرس المعارك بين جهاز المخابرات المصرية ونظيره الإسرائيلي... معركة أديرت بذكاء شديد وبسرية مطلقة، انتصرت فيها المخابرات المصرية في النهاية، وبرهنت على يقظة الذين يحاربون في الخفاء للحفاظ على أمن الوطن وسلامته.
كلنا حفظ عن ظهر قلب قصة فيلم «الصعود إلى الهاوية» التي كتبها الأديب الراحل صالح مرسي، وأخرجها المخرج الراحل كمال الشيخ، وجسدت بطولتها النجمة الراحلة مديحة كامل والنجم محمود ياسين في بدايات عام 1979، وهي قصة حقيقية بطلتها فتاة مصرية، اسمها الحقيقي هبة عبد الرحمن سليم عامر ، وشريكها هو خطيبها و يدعي فاروق عبدالحميد الفقي كان ضابطا في الجيش المصري برتبة مقدم .
عاشت هبة سليم في حي المهندسين، أحد أرقى أحياء القاهرة، وتحمل بطاقة عضوية في نادي الجزيرة، أشهر نوادي العاصمة ويضم أبناء الطبقة الأرستقراطية، انخرطت هبة في «غروب» من شلة أولاد الذوات تسعى خلف أخبار الهيبز، وملابس الكاوبوي وأغاني ألفيس بريسلي ملك موسيقى «الروك آند رول» آنذاك.
عندما حصلت على الثانوية العامة، ألحت على والدها، وكان وكيل وزارة في التربية والتعليم، للسفر إلى باريس لإكمال تعليمها الجامعي، فالغالبية العظمى من شباب النادي أبناء «الهاي لايف»، لا يدخلون الجامعات المصرية ويفضلون جامعات أوروبا المتحضرة، وأمام إلحاحها وبكائها مع ضغوط والدتها، وافق الوالد، فالحرية المطلقة التي اعتادتها في مصر كانت مقدمة جيدة للحياة والتحرر في عاصمة النور.
جمعتها مدرجات الجامعة بفتاة يهودية من أصول بولندية دعتها إلى سهرة في منزلها، وهناك التقت بعدد من الشباب اليهودي فتعجبوا لأنها مصرية ومع ذلك لا تشغل بالها بالهزيمة التي لحقت ببلدها، ولا تهتم بجو الحرب الذي فرض نفسه على بلادها، وأعلنت في شقة صديقتها البولندية أنها تكره الحرب، وتتمنى لو أن السلام يعم المنطقة. في زيارة أخرى، أطلعتها زميلتها على فيلم يصوّر الحياة الاجتماعية في إسرائيل وأسلوب الحياة في «الكيبوتز»، وأخذت تصف لها كيف أنهم ليسوا وحوشاً آدمية كما يصورهم الإعلام العربي، بل هم أناس على درجة عالية من التحضر.
وعلى مدار لقاءات طويلة مع الشباب اليهودي والامتزاج بهم بدعوى الحرية التي تشمل الفكر والسلوك. . استطاعت هبة أن تستخلص عدة نتائج تشكلت لديها كحقائق ثابتة لا تقبل السخرية. أهم هذه النتائج أن إسرائيل قوية جداً وأقوى من كل العرب. وأن أمريكا لن تسمح بهزيمة إسرائيل في يوم من الأيام بالسلاح الشرقي.. ففي ذلك هزيمة لها.
آمنت هبة أيضاً بأن العرب يتكلمون أكثر مما يعملون. وقادتها هذه النتائج الى حقد دفين على العرب الذين لا يريدون استغلال فرصة وجود إسرائيل بينهم ليتعلموا كيفية اختزال الشعارات الى فعل حقيقي. وأول ما يبدأون به نبذ نظم الحكم التي تقوم على ديموقراطية كاذبة وعبادة للحاكم.
مولد جاسوسة :
في تلك الشقة الموبوءة كان ميلاد الجاسوسة هبة، تردّد عليها أحد ضباط الموساد الإسرائيلي وأوهمها باستحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل وهم على خلاف دائم وتمزّق خطير، في حين تلقى إسرائيل الدعم اللازم في جميع المجالات من أوروبا وأميركا. كانت تلك الأفكار والمعتقدات سبباً رئيساً لقبولها العمل لصالح الموساد، من دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها، مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية «أصدقائها» وإنقاذهم من أي خطر يتعرضون له في أي مكان في العالم.
هكذا تجمعت لديها رؤية أيديولوجية باهتة، تشكلت بمقتضاها اعتقاداتها الخاطئة، التي قذفت بها الى الهاوية.
الشك المجنون :
كانت هذه الأفكار والمعتقدات التي اقتنعت بها الفتاة سبباً رئيسياً لتجنيدها للعمل لصالح الموساد .. دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها، مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية "أصدقائها" وإنقاذهم من أي خطر يتعرضون له في أي مكان في العالم.
هكذا عاشت الفتاة أحلام الوهم والبطولة، وأرادت أن تقدم خدماتها لإسرائيل طواعية ولكن.. كيف؟ الحياة في أوروبا أنستها هواء الوطن. .وأغاني عبد الحليم حافظ الوطنية. .وبرج القاهرة الذي بناه عبد الناصر من أموال المخابرات الأمريكية التي سخرتها لاغتياله.
تذكرت هبة صديقها المقدم فاروق الفقي الذي كان يطاردها في نادي الجزيرة ولا يكف عن تحيّن الفرصة للانفراد بها وإظهار إعجابه الشديد ورغبته الملحة في الارتباط بها، ملت كثيراً مطارداته لها من قبل في النادي وخارجه، وكادت يوماً ما أن تنفجر فيه غيظاً في التلفون، وذلك عندما تلاحقت أنفاسه اضطراباً وهو يرجوها أن تحس به، كثيرا ما قال لها: أعبدك.. أحبك، لكنها كانت تصده بعنف، تذكرت هبة هذا الضابط الولهان، وتذكرت وظيفته المهمة في مكان حساس في سلاح المهندسين في القوات المسلحة المصرية، وعندما أخبرت ضابط الموساد عنه، كاد أن يطير بها فرحاً، ورسم لها خطة اصطياده.
في أول إجازة لها في مصر، كانت مهمتها الأساسية تنحصر في تجنيد المقدم فاروق وبأي ثمن، وكان الثمن هو موافقتها على خطبتها له. فرح الضابط العاشق بعروسه الجميلة التي فاز بها أخيراً، وبدأت تدريجياً تسأله عن بعض المعلومات والأسرار الحربية خصوصاً مواقع الصواريخ الجديدة التي وصلت من روسيا، فكان يتباهى أمامها بأهميته ويتكلم في أدق الأسرار العسكرية، ويجيء بها بالخرائط زيادةً في شرح التفاصيل!
أرسلت هبة فورًا برسائل عدة إلى باريس بما لديها من معلومات، ولما تبينت إسرائيل خطورة وصحّة ما تبلغه هذه الفتاة لهم اهتموا بها اهتماماً فوق العادة، وبدأوا بتوجيهها إلى الأهم في تسليح مواقع القوات المسلحة المصرية، وبالذات قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها والمواقع التبادلية المقترحة.
سافرت هبة إلى باريس مرة ثانية تحمل في حقيبتها صفحات عدة دونت فيها معلومات غاية في السرية والأهمية لدرجة حيرت المخابرات الإسرائيلية، فماذا يمكنهم أن يقدموه كمكافأة لهذه الفتاة الصغيرة التي قدمت لهم أسرارا في غاية الخطورة؟ سؤال كانت إجابته عشرة آلاف فرنك فرنسي حملها ضابط الموساد إلى الفتاة، مع وعد بمبالغ أكبر وهدايا ثمينة وحياة رغدة في باريس، الغريب أن هبة رفضت النقود بشدة وقبلت السفر إلى القاهرة على نفقة الموساد بعد ثلاثة أشهر من إقامتها في باريس، كانت الوعود البراقة تنتظرها إذا جندت خطيبها ليمدَّهم بالأسرار العسكرية التي تمكنهم من اكتشاف نوايا المصريين تجاههم.
عشق وخيانة :
لم يكن المقدم فاروق الفقي بحاجة إلى التفكير في التراجع، إذ إن الحبيبة الجميلة هبة كانت تعشش في قلبه وتستحوذ على عقله. لم يعد يملك عقلاً ليفكر، بل طاعة عمياء سخّرها لخدمة إرادة حبيبته، وعندما اصطحبها في سيارته إلى صحراء الهرم، كان خجولاً لفرط جرأتها معه، أقنعته وهي بين ذراعيه أنها لم تصادف رجلاً قبله أبداً، ليس هذا فحسب، بل أبدت رغبتها في قضاء يوم كامل معه في شقته، ولم يصدق أذنيه، فلطالما ألح عليها من قبل، لكنها كانت ترفض بشدة، الآن تعرض عليه ذلك بحجة سفرها، وفي شقته في منطقة الدقي في القاهرة تركت لعابه يسيل وجعلته يلهث ضعفاً وتذللاً، لكنها هيهات أن تمنحه كل ما يريد, حجبت عنه متعة اللقاء، وأحكمت قيدها حول رقبته، فمشى يتبعها أينما سارت. سقط ضابط الجيش المصري في بئرها، ثم وقّع وثيقة خيانته، ليصير في النهاية عميلاً للموساد، تمكن من تسريب وثائق وخرائط عسكرية موضحاً عليها منصات صواريخ «سام 6» المضادة للطائرات، التي كانت تسبب خسائر فادحة لسلاح الجو الإسرائيلي عند الإغارة على أهداف مدنية وعسكرية في مصر، وكانت القوات المسلحة تسعى بكامل طاقاتها لنصبها لحماية مصر من غارات العمق الإسرائيلية، الى درجة أنهم كانوا يعملون على ضوء القمر في ملحمة وطنية تجلت فيها أروع أمثلة البطولة.
لاحظت القيادة العامة للقوات المسلحة وجهازا المخابرات العامة والحربية، أن مواقع الصواريخ الجديدة تدمر أولاً بأول بواسطة الطيران الإسرائيلي، حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح فيها، وحدثت خسائر جسيمة في الأرواح، وتعطل تقدّم العمل في مشروع حائط الصواريخ المضادة للطائرات الذي كان وقتها هدفا استراتيجيا.
تزامنت الأحداث مع وصول معلومات لرجال المخابرات المصرية بوجود عميل عسكري سرب معلومات سرية جداً إلى إسرائيل، وبدأ شك مجنون في كل شخص ذي أهمية في القوات المسلحة، وفي مثل هذه الحالات لا يستثنى أحد بدءاً من وزير الدفاع.
اتسعت دائرة الرقابة التلفونية والبريدية لتشمل دولاً كثيرة، مع رفع نسبة المراجعة والرقابة إلى مائة في المائة من الخطابات وغيرها، ذلك كله لمحاولة كشف الكيفية التي تصل بها هذه المعلومات إلى الخارج. كذلك بدأت رقابة قوية وصارمة على حياة وتصرفات كل من تتداول أيديهم هذه المعلومات من القادة. كانت رقابة لصيقة وكاملة، تبينت طهارتهم ونقاؤهم، ثم أُدخل موظفو مكاتبهم في دائرة الرقابة، كذلك مساعدوهم ومديرو مكاتبهم وكل من يحيط بهم مهما صغرت أو كبرت رتبته. في تلك الأثناء كانت هبة تعيش حياتها في باريس، عرفت المنكر والتدخين وعاشت الحياة الأوروبية بكل تفاصيلها.
عرض عليها ضابط الموساد زيارة إسرائيل، فلم تكن لتصدق أبداً أنها مهمة إلى هذه الدرجة. وصفت هي نفسها تلك الرحلة فقالت إن طائرتين حربيتين رافقتا طائرتي كحارس شرف وتحية لي!! وهذه إجراءات تكريمية لا تقدم أبداً إلا لرؤساء وملوك الدول الزائرين، حيث تقوم الطائرات المقاتلة بمرافقة طائرة الضيف حتى الوصول الى المطار. في مطار تل أبيب، كان ينتظرها عدد من الضباط اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة، أدوا التحية العسكرية لها، واستقبلها مائير عاميت رئيس جهاز الموساد في مكتبه، ثم أقام لها حفلة استقبال ضمت نخبة من كبار ضباط الموساد، عندما عرضوا تلبية كل أوامرها طلبت مقابلة غولدا مائير رئيسة الوزراء، وجدت على مدخل مكتبها صفاً من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لها التحية العسكرية، قابلتها مسز مائير ببشاشة ورقة وقدمتها إليهم قائلة: قدمت هذه الآنسة لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها أنتم مجتمعين.
المراقب الذكي :
في القاهرة، كان البحث لا يزال جارياً على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول الجميع، إلى أن اكتشف أحد مراقبي الخطابات الأذكياء «من المخابرات المصرية» خطاباً عادياً مرسلاً إلى فتاة مصرية في باريس سطوره تفيض بالعواطف من حبيبها، لكن الذي لفت انتباه المراقب الذكي عبارة كتبها مرسل الخطاب، تقول إنه قام بتركيب إيريال الراديو الذي عنده، ذلك أن عصر الأخير انتهى، إذن فالإيريال يخص جهازاً لاسلكياً للإرسال والاستقبال، وقال لي أحد ضباط المخابرات المصرية الذين شاركوا في هذه العملية، وكنت قد التقيته عام 1988 في أحد الأجهزة المدنية في الدولة وكان يعمل كمدير للعلاقات العامة، إن صاحب الخطاب ذكر أنه حصل على إجازة (من نوع معين) وهي نوع من الإجازات لا تمنح إلا لضباط الجيش من رتبة مقدم فأعلى، فكانت الكارثة المكتشفة هي أن مرسله ضابط كبير في الجيش.
كلنا حفظ عن ظهر قلب قصة فيلم «الصعود إلى الهاوية» التي كتبها الأديب الراحل صالح مرسي، وأخرجها المخرج الراحل كمال الشيخ، وجسدت بطولتها النجمة الراحلة مديحة كامل والنجم محمود ياسين في بدايات عام 1979، وهي قصة حقيقية بطلتها فتاة مصرية، اسمها الحقيقي هبة عبد الرحمن سليم عامر ، وشريكها هو خطيبها و يدعي فاروق عبدالحميد الفقي كان ضابطا في الجيش المصري برتبة مقدم .
عاشت هبة سليم في حي المهندسين، أحد أرقى أحياء القاهرة، وتحمل بطاقة عضوية في نادي الجزيرة، أشهر نوادي العاصمة ويضم أبناء الطبقة الأرستقراطية، انخرطت هبة في «غروب» من شلة أولاد الذوات تسعى خلف أخبار الهيبز، وملابس الكاوبوي وأغاني ألفيس بريسلي ملك موسيقى «الروك آند رول» آنذاك.
عندما حصلت على الثانوية العامة، ألحت على والدها، وكان وكيل وزارة في التربية والتعليم، للسفر إلى باريس لإكمال تعليمها الجامعي، فالغالبية العظمى من شباب النادي أبناء «الهاي لايف»، لا يدخلون الجامعات المصرية ويفضلون جامعات أوروبا المتحضرة، وأمام إلحاحها وبكائها مع ضغوط والدتها، وافق الوالد، فالحرية المطلقة التي اعتادتها في مصر كانت مقدمة جيدة للحياة والتحرر في عاصمة النور.
جمعتها مدرجات الجامعة بفتاة يهودية من أصول بولندية دعتها إلى سهرة في منزلها، وهناك التقت بعدد من الشباب اليهودي فتعجبوا لأنها مصرية ومع ذلك لا تشغل بالها بالهزيمة التي لحقت ببلدها، ولا تهتم بجو الحرب الذي فرض نفسه على بلادها، وأعلنت في شقة صديقتها البولندية أنها تكره الحرب، وتتمنى لو أن السلام يعم المنطقة. في زيارة أخرى، أطلعتها زميلتها على فيلم يصوّر الحياة الاجتماعية في إسرائيل وأسلوب الحياة في «الكيبوتز»، وأخذت تصف لها كيف أنهم ليسوا وحوشاً آدمية كما يصورهم الإعلام العربي، بل هم أناس على درجة عالية من التحضر.
وعلى مدار لقاءات طويلة مع الشباب اليهودي والامتزاج بهم بدعوى الحرية التي تشمل الفكر والسلوك. . استطاعت هبة أن تستخلص عدة نتائج تشكلت لديها كحقائق ثابتة لا تقبل السخرية. أهم هذه النتائج أن إسرائيل قوية جداً وأقوى من كل العرب. وأن أمريكا لن تسمح بهزيمة إسرائيل في يوم من الأيام بالسلاح الشرقي.. ففي ذلك هزيمة لها.
آمنت هبة أيضاً بأن العرب يتكلمون أكثر مما يعملون. وقادتها هذه النتائج الى حقد دفين على العرب الذين لا يريدون استغلال فرصة وجود إسرائيل بينهم ليتعلموا كيفية اختزال الشعارات الى فعل حقيقي. وأول ما يبدأون به نبذ نظم الحكم التي تقوم على ديموقراطية كاذبة وعبادة للحاكم.
مولد جاسوسة :
في تلك الشقة الموبوءة كان ميلاد الجاسوسة هبة، تردّد عليها أحد ضباط الموساد الإسرائيلي وأوهمها باستحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل وهم على خلاف دائم وتمزّق خطير، في حين تلقى إسرائيل الدعم اللازم في جميع المجالات من أوروبا وأميركا. كانت تلك الأفكار والمعتقدات سبباً رئيساً لقبولها العمل لصالح الموساد، من دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها، مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية «أصدقائها» وإنقاذهم من أي خطر يتعرضون له في أي مكان في العالم.
هكذا تجمعت لديها رؤية أيديولوجية باهتة، تشكلت بمقتضاها اعتقاداتها الخاطئة، التي قذفت بها الى الهاوية.
الشك المجنون :
كانت هذه الأفكار والمعتقدات التي اقتنعت بها الفتاة سبباً رئيسياً لتجنيدها للعمل لصالح الموساد .. دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها، مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية "أصدقائها" وإنقاذهم من أي خطر يتعرضون له في أي مكان في العالم.
هكذا عاشت الفتاة أحلام الوهم والبطولة، وأرادت أن تقدم خدماتها لإسرائيل طواعية ولكن.. كيف؟ الحياة في أوروبا أنستها هواء الوطن. .وأغاني عبد الحليم حافظ الوطنية. .وبرج القاهرة الذي بناه عبد الناصر من أموال المخابرات الأمريكية التي سخرتها لاغتياله.
تذكرت هبة صديقها المقدم فاروق الفقي الذي كان يطاردها في نادي الجزيرة ولا يكف عن تحيّن الفرصة للانفراد بها وإظهار إعجابه الشديد ورغبته الملحة في الارتباط بها، ملت كثيراً مطارداته لها من قبل في النادي وخارجه، وكادت يوماً ما أن تنفجر فيه غيظاً في التلفون، وذلك عندما تلاحقت أنفاسه اضطراباً وهو يرجوها أن تحس به، كثيرا ما قال لها: أعبدك.. أحبك، لكنها كانت تصده بعنف، تذكرت هبة هذا الضابط الولهان، وتذكرت وظيفته المهمة في مكان حساس في سلاح المهندسين في القوات المسلحة المصرية، وعندما أخبرت ضابط الموساد عنه، كاد أن يطير بها فرحاً، ورسم لها خطة اصطياده.
في أول إجازة لها في مصر، كانت مهمتها الأساسية تنحصر في تجنيد المقدم فاروق وبأي ثمن، وكان الثمن هو موافقتها على خطبتها له. فرح الضابط العاشق بعروسه الجميلة التي فاز بها أخيراً، وبدأت تدريجياً تسأله عن بعض المعلومات والأسرار الحربية خصوصاً مواقع الصواريخ الجديدة التي وصلت من روسيا، فكان يتباهى أمامها بأهميته ويتكلم في أدق الأسرار العسكرية، ويجيء بها بالخرائط زيادةً في شرح التفاصيل!
أرسلت هبة فورًا برسائل عدة إلى باريس بما لديها من معلومات، ولما تبينت إسرائيل خطورة وصحّة ما تبلغه هذه الفتاة لهم اهتموا بها اهتماماً فوق العادة، وبدأوا بتوجيهها إلى الأهم في تسليح مواقع القوات المسلحة المصرية، وبالذات قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها والمواقع التبادلية المقترحة.
سافرت هبة إلى باريس مرة ثانية تحمل في حقيبتها صفحات عدة دونت فيها معلومات غاية في السرية والأهمية لدرجة حيرت المخابرات الإسرائيلية، فماذا يمكنهم أن يقدموه كمكافأة لهذه الفتاة الصغيرة التي قدمت لهم أسرارا في غاية الخطورة؟ سؤال كانت إجابته عشرة آلاف فرنك فرنسي حملها ضابط الموساد إلى الفتاة، مع وعد بمبالغ أكبر وهدايا ثمينة وحياة رغدة في باريس، الغريب أن هبة رفضت النقود بشدة وقبلت السفر إلى القاهرة على نفقة الموساد بعد ثلاثة أشهر من إقامتها في باريس، كانت الوعود البراقة تنتظرها إذا جندت خطيبها ليمدَّهم بالأسرار العسكرية التي تمكنهم من اكتشاف نوايا المصريين تجاههم.
عشق وخيانة :
لم يكن المقدم فاروق الفقي بحاجة إلى التفكير في التراجع، إذ إن الحبيبة الجميلة هبة كانت تعشش في قلبه وتستحوذ على عقله. لم يعد يملك عقلاً ليفكر، بل طاعة عمياء سخّرها لخدمة إرادة حبيبته، وعندما اصطحبها في سيارته إلى صحراء الهرم، كان خجولاً لفرط جرأتها معه، أقنعته وهي بين ذراعيه أنها لم تصادف رجلاً قبله أبداً، ليس هذا فحسب، بل أبدت رغبتها في قضاء يوم كامل معه في شقته، ولم يصدق أذنيه، فلطالما ألح عليها من قبل، لكنها كانت ترفض بشدة، الآن تعرض عليه ذلك بحجة سفرها، وفي شقته في منطقة الدقي في القاهرة تركت لعابه يسيل وجعلته يلهث ضعفاً وتذللاً، لكنها هيهات أن تمنحه كل ما يريد, حجبت عنه متعة اللقاء، وأحكمت قيدها حول رقبته، فمشى يتبعها أينما سارت. سقط ضابط الجيش المصري في بئرها، ثم وقّع وثيقة خيانته، ليصير في النهاية عميلاً للموساد، تمكن من تسريب وثائق وخرائط عسكرية موضحاً عليها منصات صواريخ «سام 6» المضادة للطائرات، التي كانت تسبب خسائر فادحة لسلاح الجو الإسرائيلي عند الإغارة على أهداف مدنية وعسكرية في مصر، وكانت القوات المسلحة تسعى بكامل طاقاتها لنصبها لحماية مصر من غارات العمق الإسرائيلية، الى درجة أنهم كانوا يعملون على ضوء القمر في ملحمة وطنية تجلت فيها أروع أمثلة البطولة.
لاحظت القيادة العامة للقوات المسلحة وجهازا المخابرات العامة والحربية، أن مواقع الصواريخ الجديدة تدمر أولاً بأول بواسطة الطيران الإسرائيلي، حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح فيها، وحدثت خسائر جسيمة في الأرواح، وتعطل تقدّم العمل في مشروع حائط الصواريخ المضادة للطائرات الذي كان وقتها هدفا استراتيجيا.
تزامنت الأحداث مع وصول معلومات لرجال المخابرات المصرية بوجود عميل عسكري سرب معلومات سرية جداً إلى إسرائيل، وبدأ شك مجنون في كل شخص ذي أهمية في القوات المسلحة، وفي مثل هذه الحالات لا يستثنى أحد بدءاً من وزير الدفاع.
اتسعت دائرة الرقابة التلفونية والبريدية لتشمل دولاً كثيرة، مع رفع نسبة المراجعة والرقابة إلى مائة في المائة من الخطابات وغيرها، ذلك كله لمحاولة كشف الكيفية التي تصل بها هذه المعلومات إلى الخارج. كذلك بدأت رقابة قوية وصارمة على حياة وتصرفات كل من تتداول أيديهم هذه المعلومات من القادة. كانت رقابة لصيقة وكاملة، تبينت طهارتهم ونقاؤهم، ثم أُدخل موظفو مكاتبهم في دائرة الرقابة، كذلك مساعدوهم ومديرو مكاتبهم وكل من يحيط بهم مهما صغرت أو كبرت رتبته. في تلك الأثناء كانت هبة تعيش حياتها في باريس، عرفت المنكر والتدخين وعاشت الحياة الأوروبية بكل تفاصيلها.
عرض عليها ضابط الموساد زيارة إسرائيل، فلم تكن لتصدق أبداً أنها مهمة إلى هذه الدرجة. وصفت هي نفسها تلك الرحلة فقالت إن طائرتين حربيتين رافقتا طائرتي كحارس شرف وتحية لي!! وهذه إجراءات تكريمية لا تقدم أبداً إلا لرؤساء وملوك الدول الزائرين، حيث تقوم الطائرات المقاتلة بمرافقة طائرة الضيف حتى الوصول الى المطار. في مطار تل أبيب، كان ينتظرها عدد من الضباط اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة، أدوا التحية العسكرية لها، واستقبلها مائير عاميت رئيس جهاز الموساد في مكتبه، ثم أقام لها حفلة استقبال ضمت نخبة من كبار ضباط الموساد، عندما عرضوا تلبية كل أوامرها طلبت مقابلة غولدا مائير رئيسة الوزراء، وجدت على مدخل مكتبها صفاً من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لها التحية العسكرية، قابلتها مسز مائير ببشاشة ورقة وقدمتها إليهم قائلة: قدمت هذه الآنسة لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها أنتم مجتمعين.
المراقب الذكي :
في القاهرة، كان البحث لا يزال جارياً على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول الجميع، إلى أن اكتشف أحد مراقبي الخطابات الأذكياء «من المخابرات المصرية» خطاباً عادياً مرسلاً إلى فتاة مصرية في باريس سطوره تفيض بالعواطف من حبيبها، لكن الذي لفت انتباه المراقب الذكي عبارة كتبها مرسل الخطاب، تقول إنه قام بتركيب إيريال الراديو الذي عنده، ذلك أن عصر الأخير انتهى، إذن فالإيريال يخص جهازاً لاسلكياً للإرسال والاستقبال، وقال لي أحد ضباط المخابرات المصرية الذين شاركوا في هذه العملية، وكنت قد التقيته عام 1988 في أحد الأجهزة المدنية في الدولة وكان يعمل كمدير للعلاقات العامة، إن صاحب الخطاب ذكر أنه حصل على إجازة (من نوع معين) وهي نوع من الإجازات لا تمنح إلا لضباط الجيش من رتبة مقدم فأعلى، فكانت الكارثة المكتشفة هي أن مرسله ضابط كبير في الجيش.
عدل سابقا من قبل a7med_3adel81 في الأحد أغسطس 02, 2009 11:27 am عدل 1 مرات